الثلاثاء، 5 يونيو 2012

حركة التأليف في المجاز القرآني :اعداد عبد الرحيم أنكيس .وهشام حادف


أظهر علماء اللغة العربية القدماء تاريخيا، اهتمامهم الواسع والعميق بالبحث اللغوي في جميع مستوياته الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. وكان الدافع الأساس لهم على هذا الاهتمام هو النص القرآني، الذي درسوه  من جوانب مختلفة، وألفوا في ذلك كتبا ومصنفات كثيرة، وطأت الطريق للعلماء بعدهم في مجال الدراسات القرآنية مثل : كتب إعراب القرآن، ومعاني القرآن، وغريب القرآن...،.
 ومن المسائل التي شغلت جانبا هاما من جهود اللغويين الأوائل مسألة  "المجاز "، والتي تناولها فيمن بعدهم الأدباء والنحاة والبلاغيون والمفسرون والفقهاء وعلماء الكلام بالدرس والتحليل، ولم يختص بها الدرس اللغوي وحده، بل دارت حولها مناقشات المفكرين وآراؤهم في القديم والحديث.
وقد تحدث كل هؤلاء العلماء عن المجاز من منظور مختلف، إما ضمن أبواب في كتب البلاغة أو النقد أو الإعجاز( الجاحظ مثلا ) ، وإما بالحديث عنه  في كتب خاصة مؤلفة ( مثل ما نجد عند أبي عبيدة والشريف الرضي).
وقبل الحديث عن المؤلفين حول المجاز يحسن بنا أن نلقي ومضات سريعة حول مجهودات عالمين من علماء البلاغة الأوائل في مجاز القرآن، وهما:  الجاحظ وابن قتيبة اللذان كان لهما الفضل الكبير فيمن تكلم في المجاز بعدهما تأليفا وتصنيفا.
الجاحظ ومجازات القرآن
  لعل الجاحظ( ت255 هـ) هو أول من استعمل المجاز فى القرآن بالمعنى المقابل للحقيقة ، وهو ذلك المعنى القريب جد القرب مما استعمله البيانيون المتأخرون ، وبهذا كان الجاحظ هو أول مصنف عربى استعمل لفظتى المجاز والاستعارة على نحو يقرب مما قصد بهما عند البلاغيين. ونراه فى مواطن متفرقة من كتابيه «الحيوان» و«البيان والتبيين» يشير إلى المجاز والاستعارة إشارات تعد أول ما سجل منهما بالمعنى البياني فى المؤلفات العربية.
ولعل من أوائل اللمع البيانية عند الجاحظ قوله فى «الحيوان» : "باب آخر فى المجاز والتشبيه بالأكل ، وهو قول اللّه عز وجل :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }النساء10 وقوله تعالى عز اسمه : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }المائدة42، وقد يقال لهم ذلك ، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ، ولبسوا الحلل ، وركبوا الدواب ، ولم ينفقوا منها درهما واحدا فى سبيل الأكل ، وقد قال اللّه عز وجل : {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً} وهذا مجاز آخر"[1].
ابن قتيبة ومجازات القرآن
  جاء بعد الجاحظ تلميذه أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة (ت276هـ) ، الذي توسع فى نظرته إلى الاستعارة والمجاز أكثر من أستاذه، وخطا باللمع البيانية عند أستاذه الجاحظ خطوة وسعت دلالات كثير من الألفاظ والاصطلاحات التي أخذت تظهر بعد ذلك بالتدريج فى علوم البلاغة ، فنراه يقول فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» : "و للعرب المجازات فى الكلام ، ومعناها طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم ، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص، مع أشياء كثيرة سنراها فى أبواب المجاز، إن شاء اللّه تعالى "[2].
ثم نراه يعقد بعد ذلك بابين أولهما فى «المجاز» وثانيهما فى «الاستعارة» فيتحدث عن المجاز فى القرآن ، ويكثر من الأمثلة القرآنية يخرجها تخريجا مجاز يا يبعدها عن الاصطدام بالحقيقة.
 أما حديثه عن المجاز فى القرآن فقد كان من منطلق دفاعي قوي، يقول : "و أما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب ، لأن الجدار لا يريد[3] ، والقرية لا تسأل[4]. وهذا من أشنع جهالاتهم. وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم، ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا، كان أكثر كلامنا فاسدا. لأنا نقول : نبت البقل ، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر"[5].
أما الباب الذي عقده ابن قتيبة  " للاستعارة " فى كتابه «تأويل مشكل القرآن» فهو لا يقل إمتاعا وفائدة عن باب المجاز ، وتكاد ألفاظه تكون هى الألفاظ التي استعملها البيانيون بعد هذا. يقول: " فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاورا لها أو مشاكلا. فيقولون للنبات : نوء. لأنه يكون عن النوء عندهم . ويقولون للمطر : سماء. لأنه من السماء ينزل ، فيقال :ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. قال الشاعر :
إذا سقط السماء بأرض قوم   رعيناه وإن كانوا غضابا
ويقولون : ضحكت الأرض. إذا أنبتت ، لأنها تبدى عن حسن النبات ، وتنفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر، ولذلك قيل لطلع النخل إذا انفتق عنه كافوره :الضَّحْك ، لأنه يبدو منه للناظر كبياض الثغر. ويقال : ضحكت الطلعة. ويقال : النّور يضاحك الشمس لأنه يدور معها" [6].
ويمضى القرن الثالث بما فيه من موجات أدبية لغوية نحوية كلامية، " وبمن فيه من أمثال أبى عثمان المازني، وثعلب، والزجّاج، وابن الأنبارى، والسجستاني، والمبرد، وغيرهم، ويجىء القرن الرابع بمن فيه من أمثال ابن خالويه (ت 370 هـ)، وأبى بكر الزبيدي (ت 379 هـ)، وابن جنى (ت392 هـ)، والسيرافي (ت368 هـ)، وأبى على الفارسي (ت377 هـ)، وأبى حسن الرماني (384 هـ) وغيرهم فلا نجد كتابا ألف فى «مجازات القرآن» من هؤلاء الأعلام المشتغلين باللغة والنحو. ونرى الشاعر العلوي الأبى الشريف الرضى ينصب همته ، ويلقى عزمه بين عينيه ، فيصنف كتابا فى «مجازات القرآن»"[7]. وسيأتي الحديث عنه لاحقا.


1.    المؤلفون في المجاز:
ألف العلماء في المجاز كتبا مستقلة قديما وحديثا، وناقشوا فكرة المجاز بشكل مستفيض، ما بين مثبت وناف، وقائل وراد بوقوع المجاز أو عدم وقوعه في اللغة أو القرآن.
والعلماء المؤلفون في المجاز الذين وقفنا عليهم، هم على الشكل التالي حسب التسلسل الزمني لحياتهم:
المؤلف
سنة الوفاة
هجرية
عنوان الكتاب
المحقق
أو نوع الكتاب
دار النشر
أبو عبيدة معمر بن المثنى

أبو الحكيم بن سعيد البلوطي
الشريف الرضي

الشريف الرضي

العز بن عبد السلام
الطوفي الصرصري
عبد الحكيم بن أبي الحسن بن يحيى المراكشي
ابن تيمية
السيوطي
محمد الأمين الشنقيطي
210

355
406
//


660
671
723

728
911
1393
مجاز القرآن

كتاب في نفي المجاز[8]
تلخيص البيان في مجازات القرآن
المجازات النبوية

مجاز القرآن- أو : الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز
كتاب غفلة المجتاز في تحقيق الحقبقة والمجاز[9]
الإيجاز في دلالة المجاز[10]
الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله
مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن[11]
منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز
تعليق د. فؤاد سرجيـن

            ــــــ
            ــــــ

تحقيق وشرح: طه محمد الزيني

مصطفى محمد حسين الذهبي        
ــــــ
ــــــ
شرح الرسالة: ياسر برهامي
       ــــــ
إشراف : بكر بن عبد الله أبو زيد
مكتبة الخانجي القاهرة 1954
           ــــــــ

دار الأضواء ـ بيروت
منشورات مكتبة بصيرتي

مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن              1419هـ-1999م
ــــــ
ــــــ
دار الخلفاء الراشدين، الاسكندرية ، مصر،  ط1، 1426هـ -2005م              ــــــ
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

·       مؤلفات ورسائل حديثة في المجاز
المؤلف
عنوان الكتاب
نوع الكتاب
دار النشر
محمد توفيق محمد سعد

أحمد هنداوي عبد الغفار
عبد العزيز المطعني

عبد العزيز المطعني
سمير أحمد معلوف

عبد الوهاب المسيري

مصطفى عيد الصياصنة
محمد بدري عبد الجليل

مسرة جمال

محمد عاشور محمد راضي

معيد زكي الهاشمي
اشكالية الجمع بين الحقيقة والمجاز
المجاز المرسل في لسان العرب لابن منظور
المجاز في اللغة والقرآن بين مجوزيه ومانعيه
المحاز بين ابن تيمية وتلامذته بين الإنكار والإقرار
حيوية اللغة بين الحقيقة والمجاز: دراسة في المجاز الأسلوبي واللغوي
اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود
بطلان المجاز وأثره في إفساد التصور الإسلامي
المجاز  وأثره في الدرس اللغوي
دراسات في المجاز وجماله في القرآن الكريم

المجاز في أساس البلاغة للزمخشري
الترادف والاشتراك والحقيقة والمجاز في القرآن الكريم
مؤلَّف
مؤلَّف

مؤلَّف

مؤلَّف
مؤلَّف

مؤلَّف

مؤلَّف
مؤلَّف

أطروحة لنيل شهادة الدكتورة بجامعة بشاور:1331هـ/1993م
رسالة لنيل شهادة الماجستر، جامعة بغداد: 1426هـ/2005م

رسالة لنيل شهادة الماجستر جامعة الأزهر
ط1، القاهرة، 1992
ط1، 1415هـ/1994م
مكتبة وهبة – القاهرة
مكتبة وهبة – القاهرة، ط1، 1416هـ - 1995م
اتحاد كتاب العرب سوريا، 1996
دار الشروق القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م

دار المعارج، ط1، 1411هـ

دار المعرفة الجامعية، ط1، 2003
              ــــــ

              ــــــ

              ــــــ

              ــــــ



2.   نماذج من المؤلفات في مجاز القرآن :
·             مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى( 210هـ)
لعل أول كتاب وأقدمه فى «مجاز القرآن» هو الكتاب الذي صنفه أبو عبيدة بهذا العنوان، ويدل على ذلك أنه جاء بعد قتادة بن دعامة السدوسي (ت117 هـ). وأبى عمرو بن العلاء (ت154 هـ) وهما لم يخلفا لنا أثرا مكتوبا ، وإنما كانت الأخبار تنقل عنهما مشافهة. أما أبو عبيدة معمر بن المثنى (209 هـ) فقد ترك بعده طائفة من الكتب زادت على المائة ، كما عدها صاحب «الفهرست».
وكان الداعي الأكبر إلى تأليف هذا الكناب هو تفهم أساليب القرآن الكريم، وفق سنن العرب في كلامها وأحاديثها.
وتسمية أبي عبيدة لكتابه بمجاز القرآن لم يكن يقصد به المعنى الاصطلاحي للمجاز كما في عرف أهل البيان، ولكن لفظة «المجاز» عنده تساوى طريق الجواز إلى فهم اللفظة القرآنية ، فهو أقرب إلى تفسير غريب القرآن منه إلى الكشف عن وجوه البيان فيه بالمعنى الذي يريده البيانيون. فالمجاز القرآنى - عند أبى عبيدة  لا يعدو أن يكون تفسيرا لألفاظ القرآن ومعجما لمعانيه، يقول أبو عبيدة في مقدمة كتابه : "فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه ، لأنهم كانوا عرب الألسن ، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه ، وعما فيه مما فى كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص.وفى القرآن مثل ما فى الكلام العربي من وجوه الإعراب ، ومن الغريب ، والمعاني" [12].
-             منهج أبي عبيدة في تفسير معاني الآيات:
ما يمتاز به أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن انه اتجه إلى فهم النص القرآني فهما مستنبطا من كلام العرب، حيث تناول القرآن كله سورة سورة ، مستعرضا لألفاظ اللآيات يشرحها شرحا لغويا ويفسر غريبها ويقيم إعرابها ، ذاكرا من الشعر العربي الفصيح ما يؤيد المعنى الذي ذهب إليه.
 ومن نماذج تفسيره قوله عند الآية {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ }الأنبياء93. قال: مجازه: واختلفوا وتفرقوا"[13].
ومن الأمثلة أيضا قوله عند الآية:" { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }الحج5.مجازه أنه في موضع أطفال. والعرب نضع لظ الواحد في معنى الجمع، قال :
وفي حَلْقكم عظمُُ وقد شَجِينا
وفي آية أخرى { وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }التحريم4.أي ظهراء "[14].
وعلى هذا النهج يمضي أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن، مستعرضا الآيات مفسرة بكلام العرب وأشعارهم، لنخلص معه إلى أن القرآن كان على مجازات العرب وأساليبها في طرق التعبير، ويتضح مما سبق أيضا أن أبا عبيدة استعمل «المجاز» بمعنى التفسير ، وأن المجاز البياني المقابل للحقيقة لم يكن فى حسبانه وهو يصنف فى مجازات القرآن.
·             تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي( 406هـ):
"عاش الشريف الرضي في المنتصف الثاتي من القرن الرابع الهجري، ويعد من الأدباء والنقاد الذين الذين تكلموا في المجاز القرآنى والنبوي، كما أنه كان من الشعراء الذين المجيدين في قول الشعر.
وله مؤلفان جليلان في المجاز: هما كتاب(المجازات النبوية) وكتاب( تلخيص البيان في مجازات القرآن).والكتاب الذي يهمنا في هذا المقام هو الكتاب الثاني المتعلق بمجازات القرآن"[15].
-             منهج المؤلف في بيان مجاز القرآن:
سلك المؤلف في عرض وتحليل آي القرآن طريقة خاصة تعتمد على الحس الأدبي وحسن الذوق وسلامة المنهج، مستشهدا بأشعار العرب وكلامها في معرض الآيات، ويمزج فى ذلك بين التطور البلاغى الذي صار إليه الأمر فى عصره ، وبين ذوقه الأدبى، والذي صار إليه من طبيعته الأدبية الشعرية الخاصة.
وقد تناول المؤلف القرآن كله، مستعرضا ومحللا للآيات التي يرى أنها مجاز، كاشف لأسرار بلاغتها، ومستفيضا فى الشرح والتأويل.
نماذج من مجازات القرآن عند الشريف الرضي
قال :" وقوله سبحانه : {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ } [الأنبياء 15] وفى هذه الآية استعارتان. لأنه سبحانه جعل القوم الذين أهلكهم بعذابه بمنزلة النبات المحصود، الذي أنيم بعد قيامه، وأهمد بعد اشتطاطه واهتزازه.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى : خامِدِينَ والخمود من صفات النار، كما كان الحصيد من صفات النبات. فكأنه سبحانه شبّه همود أجسامهم بعد حراكها بخمود النار بعد اشتعالها. وقد يجوز أيضا - واللّه أعلم - أن يكون المراد تشبيههم بالنبات الذي حصد ثم أحرق. فيكون ذلك أبلغ فى صفتهم بالهلاك والبوار ، وامّحاء المعالم والآثار. لاجتماع صفتى الحصد والإحراق"[16] .
ومن الآيات أيضا التي يرى فيها استعارة قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ } [الشعراء 224 ، 225].  " وهذه استعارة. والمراد بها - واللّه أعلم - أن الشعراء يذهبون فى أقوالهم المذاهب المختلفة، ويسلكون الطرق المتشعبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له فى رأى، أو مباعدا له فى كلام: أنا فى واد، وأنت فى واد. أي أنت ذاهب فى طريق وأنا ذاهب فى طريق. ومثل ذلك قولهم : فلان يهبّ مع كل ريح، ويطير بكل جناح. إذا كان تابعا لكل قائد ، ومجيبا لكل ناعق.وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر فى وجوه الكلام من مدح وذم، واستزادة، وعتب، وغزل، ونسيب، ورثاء، وتشبيب. فشبّهت هذه الأقسام من الكلام بالأودية المتشعبة ، والسبل المختلفة.
ووصف الشعراء بالهيمان، فيه  فرط مبالغة فى صفتهم بالذهاب فى أقطارها، والإبعاد فى غاياتها. لأن قوله سبحانه: يَهِيمُونَ أبلغ فى هذا المعنى من قوله : يسعون، ويسيرون. ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه، فهى مخالفة لصفات ذى الحلم الرزين، والعقل الرصين" [17].
  وعلى هذا المنوال يسير المؤلف في كتابه، ونهجه هذا يدل على مقام المؤلف ومنزلته من البلاغة، وموضعه من الفصاحة، فى معالجة موضوع المجازات القرآنية، وكذلك المجازات النبوية في الكتاب الثاني، ممتزحة برقة شعرية، و معرفة أدبية، وقراءات وفقه إسلامى، ونحو ولغة، فاجتمع من ذلك كله قوام معتدل سليم لكتابين سيظلان على مدى الدهور مفتاحا لبلاغة القرآن والحديث النبوي، من حيث اشتمالهما على أبدع الاستعارات وأعجب المجازات.
القيمة العلمية والفنية للكتاب
  ومن هنا كان «تلخيص البيان» أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو متابعة المجازات والاستعارات فى كلام اللّه كله سورة سورة وآية آية. فكانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله فى هذا الغرض. فهو يقوم فى التراث العربي الإسلامى وحده شاهدا على أن الشريف الرضى خطا أول خطوة فى التأليف فى مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته ، ولم يأت عرضا فى خلال كتاب ، أو بابا من أبواب مصنّف.

 ● منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز لمحمد الأمين الشنقيطي( ت 1393هـ)
كتب الإمام محمد الأمين الشنقيطي رسالته ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) يبيين فيها موقفه من وقوع  المجاز في القرآن الكريم اذ يصرح فيها بعدم وجوده  في كتاب الله مستندا في ذلك إلى مجموعة من الأدلة والتي منها:  
1- أن القران الكريم كله حقائق و ليس فيه مجاز  حيث قال  "ولم ينتبهوا لأن هذا المنزل للتعبد والإعجاز كله حقائق وليس فيه مجاز " [18]
* أن كل مجاز كذب يجوز نفيه : فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه ، قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي :  " وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر؛ فتقول لمن يقول: رأيت أسداً يرمي: ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع؛ فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن([19]) .
2- أن القول بالمجاز ذريعة إلي نفي الصفات الإلهية وتأويلها : قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : « وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض الصفات قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم .
وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك، فقالوا: لا يد، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات؛ لأن هذه الصفات لم تُرَدْ حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات؛ فاليد مستعملة عندهم في النعمة، أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره ونحو ذلك؛ فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول المجاز.
مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها ' تعالى ' لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل » (2) .
3- أن إطلاق المجاز في القرآن يفضي ويؤدي إلى وصف الله بالمُتَجَوِّز: وذلك مما لم يرد الإذن به؛ ذلك أن أسماء الله وصفاته توقيفية كما هو معلوم.
    ثم  بيَّن الشيخ الشنقيطي– رحمه الله - أهمية الأساليب العربية في الرد على القائلين بالمجاز وبيَّن أن الآيات والأمثلة التي ذكروها لا مجاز فيها، وإنما هي أساليب استعملتها العرب، ومعان حقيقية جاءت بها اللغة،  قال الامام الشنقيطي:  كل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازاً فهو – عند من يقول بنفي المجاز – أسلوب من أساليب اللغة العربية.
     و قال أيضا – رحمه الله - : والتحقيق أن اللغة العربية لا مجاز فيها وإنما هي أساليب عربية تكلمت بجميعها العرب (3)



نموذج من تفسيراته التي يبين من خلالها عدم وجود المجاز في القرآن
الجواب عن قوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}(1) أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته، لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان  وعضده و إبطه.قال تعالى : { وَاضْمُمِ اِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهَبِ}(2). و الخفض مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو ضد الرفع،لأن مريد البطش يرفع جناحيه و مظهر الذل و التواضع يخفض جناحيه. فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما و التواضع لهما، كما قال لنبيه عليه الصلاة و السلام : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُومِنِينَ}(3). و إطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع و لين الجانب أسلوب معروف. ومنه قول الشاعر :
                و أنت الشهير بخفض الجناح         فلا تك في رفعه أجدلا.
وأما إضافة الجناح إلى الذل فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير، لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك حاتم الجود، فيكون المعنى و اخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة أو الذلول على قراءة الذال بالكسر،وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:   لا تسقني ماء الملام فإنني        صب قد استعذبت ماء بكائي.
جاءه رجل فقال له : صب لي في هذا الإناء شيئا من ماء الملام، فقال له : إن أتيتني بريشة من جناح الذل صببت لك شيئا من ماء الملام. فلا حجة فيه لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناح و إنما يراد بها خفض الجناح المنصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، و غاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود » (4) .


-------------------------------------

 (1) سورة الإسراء . الآية : 24
 (2) سورة القصص . الآية : 32
 (3) سورة الشعراء. الآية : 215
 (4) محمد الأمين الشنقيطي ،منع جواز المجاز في المنزل للتعبد و الإعجاز،ط.2 . دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ،  1427هـ-2006م،ص. 59

دراسات في المجاز وجماله في القرآن الكريم : إعداد (مسرة جمال )[20]
تسعى الباحثة في هذا البحث إلى بيان روعة الجمال في المجاز القرآني اذ قدمت دراستها في 399 ص خصصت منها بعض المباحث تفصح فيها عن موقفها من وقوع المجاز في اللغة عموما وفي الكتاب العزيز على وجه الخصوص ،اذ بعد تقديمها للتحديد اللغوي والاصطلاحي للمجاز .تبين في الفصل الأول من الباب الثاني أن المجاز يوجد في اللغة وفي القرآن وتعتبر ذلك رأي جمهور العلماء
تقول الباحثة : ( الذين يقولون ان المجاز يوجد في اللغة العربية وبالتالي في القرآن الكريم هم الجمهور من العلماء ومستندهم في ذلك هو الاستقراء وذلك أن من يتتبع اللغة العربية يواجه فيها كثيرا من الكلمات التي لها على الأقل معنيان ومفهومان يعلم أحدهما منها بنفس سماع الكلمة واللفظة حينما الآخر لا يعلم بنفس الكلمة واللفظة اذا لم تلاحظ مع السياق أو مع الألفاظ الأخر. .[21]
لقد فصلت الباحثة القول في المسألة في الفصل الثاني والثالث من الباب الثاني حيث ساقت أدلة المنكرين لوقوع المجاز في القرآن ووصلت بها إلى خمسين دليل كلها لابن القيم الجوزية  .[22]
بعد ذلك تخرج الباحثة بنتيجة مفادها :
- ان القول بعدم المجاز في اللغة وفي الكلام المجيد لا يؤيده الواقع وأن جميع اللغات البشرية لا تخلو من هذه الظاهرة
- أن إنكار ابن القيم للمجاز مبني على التعصب المذهبي في الرد على الجهمية والمعطلة .[23]
- أن خير القول في هذه المسألـــة هو عدم القول بالـتأويل  والمجاز في صفات الله سبحانه والقول بذلك فيما عداها .
تقول الباحثة بخصوص النقطة الأخيرة :( والذي أرى في هذا الباب ان الإنكار عن المجاز في القرآن وفي اللغة العربية رأسا ،والقول بالمجاز والتأويل في صفات الله تعالى كلاهما غير صحيحين حيث ان القول بالمجاز والتأويل في صفات الله ينتج بالتعطيل ونفي الصفات عن الله تعالى عن ذلك والإنكار عن المجاز رأسا في القرآن وفي اللغة هو الإغماض عن الواقع والحقيقة فمن منطلق خير الأمور أوسطها  هو أن المجاز موجود في القرآن وفي اللغة العربية بل في جميع لغات البشر وغير صحيح إجراؤه في صفات الله تعالى.)[24]


خاتمة
لقد استطعنا من خلال هذه الورقات رصد حركة التأليف في المجاز القرآني إذ لا ندعي أننا جمعنا كل ما كتب في هذا المجال بل حاولنا ذلك .
لقد أسعفتنا هذه الجولة القصيرة في مكتبة المجاز القرآني في  استنتاج نتيجة  تتمظهر في كون أن ظاهرة المجاز القرآني قد استأثرت باهتمام الدارسين قديما وحديثا ولا تزال كذلك إلى عصرنا هذا لكون القضية تتعلق بكتاب كتب الله له البقاء مابقيت الحياة على وجه البسيطة.
 كما استخلصنا أن وقوع المجاز في القرآن أو عدمه جعلت العلماء ينقسمون إلى فريقين فريق يقر بوجود المجاز في القرآن وآخر ينفيه عنه .وكل فريق له حججه التي يدافع بها عما تبناه ، إذ ان حقيقة الأمر أن كلا من الفريقين تحركه خلفيات غالبا ما تكون عقدية خصوصا في باب خطير جدا من أبواب العقيدة وهو باب الأسماء والصفات.
ونحن اذ نبحث في حركة الـتأليف في المجاز القرآني ما رجحنا فريقا على الآخر بل اكفتينا بالوصف وتحدثنا بشيء من الحياد عن مضمون كل مؤلف مما اخترناه للدراسة.





[1] الحيوان.الجاحظ، بتحقيق عبد السلام هارون. ج 5 ص 25
[2] تأويل مشكل القرآن. ابن قيبة، تحقيق : أحمد صقر، دار التراث ، القاهرة، ط2، 1393هـ - 1773م، ص 15 ، 16
[3]  بقصد الآية الكريمة { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ } الكهف77.
[4]  يريد الآية {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} يوسف82
[5] تأويل مشكل القرآن ص 99.
[6] تأويل مشكل القرآن ص 102.
[7] مقدم كتاب : مجازات القرآن  للشريف الرضي.ج2،  ص : 18
[8]  هذا الكناب ذكره د.مصطفى حسين الذهبي في مقدمة كتاب: مجاز القرآن للعز بن عبد السلام، ص : 7م
[9]  نفسه، ص : 7م
[10]  نفسه ، ص : 7م
[11]  مقدمة محقق كتاب : مجاز القرآن ، العز بن عبد السلام، ص: 7م
[12] مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق، تعليق د. فؤاد سرجيـن مكتبة الخانجي القاهرة 1954، ص: 8
[13]  المصدر نفسه، ص: 42.
[14] مجاز القرآن، ص : 44- 45.
المجاز في اللغة والقرآن بين مجوزيه ومانعيه، عبد العزيز المطعني، دار وهبة، القاهرة، ط 1، 1416هـ/ 1995م، ص: 197. [15]
[16] تلخيص البيان في مجازات القرآن، الشريف الرضي،ج2  ص: 226.
[17]  تلخيص البيان في مجازات القرآن، الشريف الرضي،ج2  ص : 557 - 558  
 2محمد الأمين الشنقيطي، منع جواز المجاز في المنزل للتعبد و الإعجاز، ط. 2 دار الكتب العلمية ،بيروت، لبنان ، -2006م

(1)  منع جواز المجاز في المنزل للتعبد و الإعجاز . ص8
 (2)  نفسه . ص8 . 9.
 (3)  محمد الأمين الشنقيطي مذكرة في أصول الفقه، مكتبة العلوم و الحكم،ط.5 ص : 74


 أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها   سنة 1993تحت إشراف الدكتور قاضي محمد مبارك بجامعة بشاور .باكستان[20]
دراسات في المجاز و جماله في القرآن الكريم ص59   -2
  نفسه ص76[22]
 نفسه ص76[23]
دراسات في المجاز و جماله في القرآن الكريم ص 100   [24]