الثلاثاء، 13 مارس 2012

تحليل مناظرة السيرافي لمتى *اعداد هشام حادف*


تقديـم:

أروم من خلال هذه الورقة أن أتحدث عن مناظرة شهيرة، أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه القيم "الإمتاع والمؤانسة"، بين لغوي ونحوي معتزلي من أقطاب اللغة وهو أبو سعيد السيرافي، ومنطقي، مترجم انتهت إليه رئاسة المنطق في زمانه وهو أبو بشر متى القنائي.
التأطير العام للمناظرة:
لقد كان مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات مسرحا لإجراء المناظرة سنة 326هـ "القرن الرابع الهجري" يعني في عهد الدولة العباسية زمن الخليفة العباسي المقتدر. ومما لا يجادل فيه عاقل أن ذاك العهد يعد بحق عصر ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، إذ أدى اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانفتاحها على أمم وحضارات أخرى إلى تعرفها على ألوان من الفنون والعلوم لم تكن للعرب بها معرفة مسبقة، مما حذا بالعرب المسلمين إلى استجلاب المهندسين، والأطباء، والمترجمين، والمنطقيين وغير ذلك فكانت حركة التأليف على قدم وساق، كذا عرفت ترجمة التراث اليوناني إلى العربية ازدهارا قل له النظير في عصور أخرى (وبيت الحكمةà خير دليل على ما نؤكد.
لقد كوان من جملة العلوم التي دخلت إلى الثقافة العربية عبر الترجمة علم المنطق، الذي أحدث جدلا واسعا في الأوساط المعرفية، وقد بلغ الجدل حدته بين مناصر للمنطق ورافض له، مما كان معه عقد مناظرات علمية بين أنصار كل اتجاه.
فلما كان "أبو بشر متى" من علماء المنطق، أراد الوزير ابن الفرات أن يفضح أمره أمام مجموعة من العلماء الذين يظنهم قادرين على محاجاة أهل المنطق. من هؤلاء العلماء أبو سعيد السيرافي الذي تقدم بأعذار ظنها تحول بينه وبين مناظرة "متى" واعتبرها ابن الفرات مسوغا يحثه على عقد العزم والتصدي "لمتى".
لقد وجد أبو سعيد نفسه في موقف حرج، لا يليق به أن يتوارى عن مواجهة خصمه ومناظرته، بل من الواجب عليه في مثل هذا الموقف إظهار كفاءته العلمية، وإبراز قدراته الحجاجية بل نصرة الثقافة العربية الإسلامية.
*الفكرة المحورية التي ترتكز عليها المناظرة*
إن القارئ للمناظرة، يدرك أن السيرافي يحاول من خلال الحجج التي ارتكز عليها والاستنتاجات التي خلص إليها، التدليل على أن النحو هو منطق اللغة العربية، مما يعني أن المنطق الأرسطي إن هو إلا نحو للغة اليونانية وبما أن العربية لها نحوها الذي هو منطقها فإن الحاجة إلى (منطق / نحو) أرسطو تنتفي جراء ذلك.  

*الأفكار الأساسية التي احتوتها المناظرة*
إن الأفكار التي نود إيرادها في هذه النقطة، أفكار تتفرع عن الفكرة المحورية وهي في أبعد تجلياتها، حجج اعتمدها السيرافي يرد بها على "متى" الذي بدت حججه واهية، وهنا يطرح الإشكال الآتي:
لماذا جاءت حجج "متى" في هذا الموقف أوهن من بيت العنكبوت أو ليس المنطقي بقادر على إفحام النحوي بما يملكه من قواعد الاستدلال، وضوابط علم الكلام؟
لما نجد "متى" في أغلب الأحيان، يكتفي بكلام إنشائي لا علاقة له بالمنطق، هل ذهب عنه المنطق في هذا المجلس.
لربما أدرك أن تحامل ابن الفرات عليه كان سيد الموقف، وبما يبديه من مناصرة وميل واضحين لجهة السيرافي ولموقفه. والمناصرة والميل واضحان من بداية المناظرة إلى نهايتها: (يقول ابن الفرات):
-أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو، حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه.
-ما لعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي، بهذا الاعتبار وهذا الإسفار.
-تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة.
في بداية المناظرة وجه السيرافي سؤالا "لمتى" عن معنى المنطق الذي يعتبر "كما بينه متى" آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيحه من سقيمه.
يعقب السيرافي على تعريف "متى" للمنطق ويعتبره خطأ، إذ إن صحيح الكلام من سقيمه يُعرف بالنظم بقواعد النحو، أما المعنى الفاسد والصالح فيعرف بالعقل.
من هنا يبدو التوجه اللغوي النحوي لأبي سعيد السيرافي، والذي يعتمده حججا يوقع بها خصمه في فخه.
إقرار السيرافي أن المنطق من وضع اليونان على قانون لغتهم واصطلاحهم، وطرحه لإشكال مفاده، أن المنطق من وضع اليونان، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب؟
ولعله أراد من خلال هذه المسألة أن كل أمة لها ثقافتها، وأسسها العلمية الثقافية، فلم تنتظر الأمم اليونان وعلمها ومنطقها، لتفكر به فيما بعد، وتبني حضارتها وفقا لما تم به بناء الحضارة العلمية في اليونان.
بيان "متى" أن المنطق يلزم جميع الأمم، لأنه بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، والناس في باب الأغراض المعقولة سواء، فأربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم.
بعد هذا البيت أقر السيرافي ذلك بقوله: "إن الأمر إذا كان على شاكلة أربعة وأربعة ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق.
يستدرك السيرافي على بيان متى بقوله: "لقد موهت بهذا المثال، ويتهمه بالتمويه الذي هو من عادة أهل المنطق –على حد قول السيرافي- ويشترط عليه أنه إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة فإن الحاجة إلى معرفة اللغة لازمة.
أثناء هذا الحوار يقع "متى" في خطأ نحوي، وهو جوابه بنعم في الإثبات عن السؤال الذي طرحه السيرافي (بالهمزة + نفي) أفليس.
لقد وجد أبو سعيد الفرصة سانحة، للتقليل من شأن "متى"، واستصغاره أمام الملأ، بل هي فرصة لاتهامه بعدم معرفة اللغة اليونانية التي يزعم أنه يدرك خباياها.
بعد ذلك يفترض السيرافي أنه إذا كانت ترجمة اللغة اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية حفظت المضمون، وأدت المعنى –كما قال متى- فهل هذا يعني أنه لا حجة إلا عقول اليونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. بالطبع هذا لا يستساغ، فكل أمة من الأمم اشتهرت بعلم دون آخر، وغلبت عليها صناعة دون أخرى.
فالجهل كل الجهل في رد المعرفة المبنية على أسس منطقية لليونان، فواضع المنطق (أرسطو) يعتبر فقط واحدا من اليونان وليس هو اليونان بأسرها، لذلك فهو ليس حجة على الخلق الكثير والجم الغفير بل وله مخالفون من أمته ومن غيرها.
إضافة إلى هذا يبين أبو سعيد لمتى أن المنطوق منعقد بالفطرة والطباع ويستدرجه حتى يوقعه في شراك لم يستطع "متى" التفلت منه. فبعدما استدرجه حتى أجاب "بنعم" عن مسألة أن الاختلاف والتفاوت يكون بالطبيعة لا بالاكتساب، وجه له استفهاما إنكاريا: فهل ووصلته بجواب قاطع وبيان ناصع؟
يُؤْثِر السيرافي في مناظرته النقاش في مسائل نحوية يدرك يقينا أن "متى" لا يعي كنهها. ومن هذه المسائل مسألة حرف الواو، ويطلب منه في تحد صارخ أن يستخرج معانيه من منطق "أرسطو"، وجد "متى" نفسه غير قادر على الإجابة، ليقول هذا (نحو) والنحو لم أنظر فيه ولا حاجة بالمنطقي إليه، والمنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ مما جعل السيرافي يشنع عليه، ويرد عليه بأن النحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، ليبين له أن النحو لا يقتصر على الوصف التركيبي لكنه يبحث عن المعنى كذلك.
فالخطأ في النحو يؤدي ضرورة إلى فساد المعنى.
لقد جنى "متى" على نفسه عندما أخطأ مسائل نحوية تخص اللغة العربية، وعندما أعلن أن كفايته من هذه اللغة تقتصر على معرفة الاسم والفعل والحرف الأمر الذي جعل السيرافي يوجه له سؤالا تعليميا: أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية؟
فلم تزري على العربية، وأنت تشرح كتب "أرسطو" بها مع جهلك بحقيقتها.
-لقد بدا السيرافي في هذا الموقف (وخصوصا في نهاية المناظرة) منطقيا حاذقا ضابطا لقواعد الاستدلال، خاصة لما انتقل من الخاص إلى العام بخصوص قوله "لمتى" أن من جهل حرفا أمكن أن يجهل حروفا ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكاملها. ثم عندما طرح معاني "في" وجه له سؤال يخفي فيه الانتصار للثقافة العربية ولغتها، وهو قوله أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها؟
ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟
-يعود السيرافي مرة أخرى ويستدرج "متى" ليقع في الزلل وذلك عندما طلب منه تحديد الفرق بين "زيد أفضل الأخوة" و"زيد أفضل أخوته".
خلاصــــة:
إن أغلب الأدلة (الحجج) التي اعتمدها السيرافي تمتح من النحو العربي، ولا علاقة لها فيما يبدو بالمسائل المنطقية الأرسطية لهذا فالتوازن غير حاصل في هذه المناظرة، "فمتى" كما يظهر لا يتقن المسائل النحوية الدقيقة.
ومما ينبغي أن يكون شرطا في المناظرة هو اختلاف الطرفين في مسائل يتقنها كل واحد منهما.
إن حقيقة المناظرة تتبدى في أنها مناظرة فكرية بين ثقافتين مختلفتين الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة اليونانية (الفكر الأرسطي على الخصوص). ومن هذا المنطلق حاول السيرافي نفي تأثير الثقافة اليونانية على الثقافة العربية في باب (المنطق)، مستدلا على ذلك بأن لكل أمة ثوابتها العلمية ومنطلقاتها الفكرية. ونحن بدورنا نؤكد ما ذهب إليه السيرافي، فسيبويه وهو صاحب أول كتاب في "النحو" استعمل طريقة في الاستدلال وسلك مسلكا في الاستنباط أشبه ما يكون "بالمنطق" وهذا لا يسوغ القول بأنه تأثر بالمنطق الأرسطي.
هذا بخصوص المنطق أما العلوم الأخرى التي لم يكن للعرب بها علم فقد بدا التأثير فيها واضحا كالرياضيات، والهندسة، والفلسفة.

هناك 4 تعليقات:

  1. السلام عليكم ورحمة الله أخويّ العزيزين .
    بداية أهنئكما على إنشاء هذه المدونة الجميلة والمفيدة ، والتي أرجو أن تكون منبرا للعلم والمعرفة ، خصوصا فيما يتعلق بالغة الضاد والعلوم الوثيقة الصلة بها . وفقكما الله .
    أما بخصوص هذه المناظرة فقد قلت في ختام تحليلي لها العام الماضي :
    " ولعل الصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث، والحساسية المفرطة تجاه كل ما هو دخيل ، كان الخلفية التي انطلقت منها هذه المناظرة ، وهو ما يظهر جليا في ردود السيرافي المسهبة والتي توحي بشخصية تستأثر بالكلام ولا ترى إلا نفسها في الميدان ، كما تدل عليه ردود أفعال الحاضرين والمناصرين لموقف السيرافي وعلى رأسهم الوزير ابن الفرات الذي قال في ختام المناظرة : " ما بعد هذا البيان من مزيد ، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار "
    غير أن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : ألا يمكن تجاوز هذا الصراع القائم على التنافي ، إلى أرضية تسمح بوجود كل منهما ؟ "
    أنتظر زيارتكما لمدونتي المتواضعة للاسترشاد بآرائكما .

    ردحذف
    الردود
    1. بلى يمكن تجاوز هذه التباينات والصراعات وذلك من خلال النظرة الوسطية المتكاملة بين النحو العربي والمنطق ،ذلك أن النحو ينتهج مسلك العرب في كلامها وأساليبها، والمنطق يرصد المعاني والدلالات ويضبط صوابها من خطئها لينشأالتفاعل بين المتخاطبين،وبالتالي فهذا التكامل بين هذين العنصرين يرنو إلى تحقيق بُعد ديني شريف يتمثل في خدمة اللغة العربي والمحافظة عليها.أ/ شتوح بوزيد.

      حذف